تدهور الثقافة المصرية- من المثقفين إلى المتسولين

المؤلف: خالد إسماعيل11.14.2025
تدهور الثقافة المصرية- من المثقفين إلى المتسولين

تبدَّل حال أهل الفكر والإبداع في مصر إلى وضعٍ مُزرٍ، لا يُفرح صديقًا ولا يُسرُّ خصيمًا. فبعد أن كانوا "كتّابًا" مبدعين، أمسوا مُجرّد "كَتَبة" ثانويين في دهاليز الحكومة.

ومن سعى منهم للاحتفاظ بقلمه الحرّ، قوبل بالتهميش والإقصاء، واغتيل معنويًا وماديًا، والأمثلة على ذلك لا تحصى، والضحايا كُثر منذ حقبة "23 يوليو 1952" التي انتهت رسميًا، ولكن تداعياتها السياسية والثقافية استمرت إلى يومنا هذا، وتجلّت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981، يوم اغتيال "الضابط الحر، عضو مجلس القيادة" أنور السادات، على يد "الحليف الإسلامي"، وهو "الرئيس المؤمن" الذي أطلق سراحهم من السجون، ومنحهم حريات واسعة، فكافئوه بقتله بتهمة "الكفر"، وهو الرئيس الذي كان يحرص على قراءة القرآن وإقامة الصلاة.

جيش من المثقفين

إن قصة المثقفين مع دولة "23 يوليو" قصة معقدة، بدأت بقبول "فتحي رضوان"، المحامي والكاتب الصحفي البارز وعضو "الحزب الوطني" العريق، منصب وزير الإرشاد القومي، والتي كانت بمثابة وزارة "دعاية" تخدم الدولة العسكرية الصاعدة، والتي كان من ضمن إداراتها "مصلحة الفنون"، والتي سرعان ما أُلغيت.

بعد ذلك، غادر فتحي رضوان منصبه، وخَلفه "ثروت عكاشة"، الضابط في سلاح الفرسان "المدرعات"، والذي كان يتمتع بثقافة واسعة، ويعشق الكتابة والترجمة، وهو صاحب فكرتين أساسيتين: الأولى مستوحاة من تجربة "يوغوسلافيا"، والأخرى متأثرة بالمخابرات الأميركية والسوفياتية.

تجلّت الفكرة اليوغوسلافية في إنشاء "هيئة قصور الثقافة"، وهي المؤسسة المسؤولة عن "جيش المثقفين" المنتشرين في المدن والقرى. أما الفكرة الأميركية السوفياتية، فتجسدت في "خلق كتيبة من المفكرين والمبدعين"، مهمتها الأساسية "التفكير وتقديم الرؤى" التي تطيل أمد النظام وتدعمه.

هذا الجيش الفكري ضمّ في صفوفه نخبة من أساتذة الجامعات، والباحثين في المجالات الصناعية والزراعية، وكان الجميع خاضعًا لرقابة "المباحث العامة" (أمن الدولة)، والمخابرات العامة. فدولة "23 يوليو" لم تكن تثق بالشعب، بل كانت تستخدمه وتوظفه لخدمة مصالحها، وتجعله مجرد أداة لتجميل صورتها.

هذا التوسع الهائل في توظيف "فرق إنتاج الأفكار" استلزم إيجاد منافذ وقنوات يتم من خلالها نشر إنتاج "جيش المثقفين" الفكري والإبداعي. وكانت الوسائل الإعلامية المناسبة لتلك الحقبة - الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين - هي الإذاعة، والمجلات الثقافية، والتلفزيون الذي "وُلد عملاقًا!" كما قيل آنذاك.

وكانت هذه المنافذ الإعلامية مُصنّفة إلى "درجات مالية"، فمثلاً، يُمنح "الروائي" الذي يقدم أعمالاً قيّمة ومفيدة "درجة وظيفية" أعلى من غيره، وبالتالي يحصل على مستحقات مالية أكبر. وكانت طريقة تسليمه هذه المستحقات تتخذ شكل "المسلسل الإذاعي"، حيث يتم تحويل رواياته إلى مسلسلات تُذاع عبر الإذاعة، ويتقاضى "المكافأة" من خزينة الإذاعة، التي كانت تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام والوجدان الجمعي للمجتمع.

احتكار المناصب

أما "الكاتب الصحفي" المتمكن، الذي يمتلك القدرة على بث الأفكار والرؤى المؤثرة، فكان يُكافأ بمنصب "رئيس التحرير". ولكن هذه المناصب الحساسة أصبحت تحت سيطرة "أجهزة الأمن" بعد عام 1960، وهو العام الذي شهد تحويل المؤسسات الصحفية إلى مؤسسات حكومية تابعة، يديرها ضابط رفيع المستوى في "مباحث الصحافة"، وهي إدارة تابعة لجهاز "المباحث العامة"، جهاز "الرعب" والقمع المعنوي، الذي تلقى ضباطه تدريبات مكثفة على أيدي ضباط المخابرات الأميركية في معسكرات بواشنطن خلال الخمسينيات.

هؤلاء الضباط هم الذين تولوا مهمة تدمير "الشيوعيين" الذين أُلقي القبض عليهم في "ليلة رأس السنة 1959". وكان "العسكري" الذي يحتكر منصب رئيس التحرير، ومنصب "الروائي" في الوقت نفسه، هو "يوسف السباعي"، العضو البارز في تنظيم "الضباط الأحرار" - فرع سلاح الفرسان. وقد تقلد يوسف السباعي مناصب صحفية مرموقة، وتحولت رواياته إلى أفلام سينمائية شهيرة، من بينها فيلم "رد قلبي"، الذي أصبح أيقونة من أيقونات دولة "23 يوليو المجيدة".

عندما أدرك الشيوعيون المعتقلون في "معتقل المحاريق" بالصحراء الغربية أنهم أُحيلوا إلى التقاعد السياسي، قرروا إنشاء "معهد ثقافي" داخل المعتقل، لتعليم الشيوعيين الموهوبين فن الإخراج الصحفي وفن المسرح وفن الغناء.

هؤلاء الشيوعيون تم إلحاقهم "بالجيش الفكري" للنظام، عقب المصالحة التي تمت بين الشيوعيين وعبدالناصر في العام 1964. حصل الشيوعيون بموجبها على حريتهم، وقاموا بحل "الحزب الشيوعي"، وطلبت منهم قيادة الحزب الانضمام إلى "الاتحاد الاشتراكي"، الحزب الحاكم آنذاك.

تم تعيين كبار قادة الحزب الشيوعي "المنحل" في المؤسسات الصحفية ووزارة الثقافة، وأصبح "الفساد الثقافي" ممارسة مقننة. فالمثقف الموالي للنظام، أو "المثقف العميل"، كان يتقاضى مكافآت مالية من الصحف والإذاعات والمجلات التابعة لوزارة الثقافة، ثم يُمنح جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية، بناءً على نشاطه وولائه للنظام، وقوة "التقارير الأمنية" التي يرفعها الجهاز الأمني المسؤول عن مراقبة هذا القطاع أو ذاك.

أصبح المشهد العام غريبًا ومثيرًا للدهشة، حيث تحول "المثقف" إلى "عسكري"، وأصبح "العسكري" يُصدر الفتاوى في شؤون الثقافة والإعلام والفنون، ويعلم الناس معنى حب الوطن، باعتباره يدافع عن الأرض ويحمل السلاح ويتقن فن "القتل" في ساحات المعارك.

وإلى جانب هؤلاء، ظهرت شريحة أخرى، وهي شريحة "الحرامية" أو اللصوص، الذين ينهبون المال العام تحت ستار "العمل الثقافي". وتحوَّلت وزارة الثقافة وشقيقتها وزارة الإعلام إلى وزارتَي "نهب منظم" للمال العام.

مثقفون متسولون

وشكّلت حقبة حكم الرئيس "مبارك" الحلقة الأخطر في مسلسل تدهور وضع المثقفين، حيث أغلقت قوس "23 يوليو المجيدة"، واستمرت لمدة ثلاثين عامًا. واستعانت من المخازن - الناصرية والساداتية - بكل القيادات والعقول التي تربت وترعرعت في كنف "جيش الفكر" الثوري الناصري التقليدي، والساداتي أيضًا، بهدف مواجهة تصاعد الغضب الإسلامي المسلح الذي شهدته مصر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

تلك الحقبة طرحت على المجتمع سؤالاً مصيريًا: "هل أنت مع الدولة العلمانية أم مع الدولة الدينية؟". هذا السؤال أفرز فريقين متصارعين: فريق "حظيرة وزارة الثقافة"، وفريق "الجماعات الإسلامية والإخوان". والمثير للدهشة أن الشيوعيين انحازوا إلى "حلقة مبارك"، واعتبروا أنفسهم في مهمة مقدسة، معتبرين أن "الوقوف مع مبارك" هو وقوف مع "الديمقراطية والعلمانية والوطنية".

وهكذا، انتهى نموذج "المثقف المستقل"، الذي يفترض فيه أن يدافع عن الحرية والعدل والقيم النبيلة. واستمر الوضع على ما هو عليه حتى يومنا هذا، ونسي المثقفون المصريون معنى "الاستقلال"، وتحولوا إلى "باعة جائلين" يطرقون أبواب "البيوت الميسورة" بحثًا عن "لقمة العيش"، ويبيعون عقولهم وأقلامهم لمن يدفع أكثر، كما قال الشاعر الراحل نجيب سرور: "وقوافل الجوعى تهيم من الرصيف إلى الرصيف، حَيرى تفتش عن رغيف".

لم يعد المثقف صوتًا للضمير، ولا ضميرًا للوطن والأمة. لقد انتهى هذا المفهوم النبيل، والفضل في ذلك يعود إلى دولة "23 يوليو"، التي حوّلت "المثقف" إلى موظف يتقاضى راتبه مقابل بيع قلمه وفكره وعقله. وهذا أدى إلى المشهد المؤسف الذي نراه اليوم، مشهد موت المثقفين، وتشويه المفاهيم، وضياع القيم.

فالمثقفون الذين رفضوا اتفاقية "كامب ديفيد"، ومنعوا مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة للكتاب، وقادوا "المظاهرات" الداعمة للقضية الفلسطينية، أصبحوا اليوم مشغولين بالجوائز والتكريمات والرحلات والمنح والهبات، بينما المقاومة الفلسطينية تواجه جيوش أميركا وأوروبا بمفردها.

ولم يحرك المثقفون ساكنًا. الوحيد الذي بكى ودعم المقاومة ودعا لها بالنصر والقوة في صلواته هو "المواطن العادي"، الذي يعتبرونه أقل وعيًا وأدنى فكرًا، ولكنه في الحقيقة أرقى إنسانية وأنبل من كل مثقفي الغرف المكيفة والأستوديوهات المجهزة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة